-->

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

بيرم التونسى، شردته القصيدة فعاش فقيراً بلا وطن ومات بالربو


رغم أن محمود بيرم التونسى قد تألق فى الإسكندرية بعد تأسيسه لمجلة المسلة، وذاعت شهرته بسبب قصيدة (المجلس البلدى أو بائع الفجل)، إلا أن العاصمة القاهرة، وفكرة الرحيل إليها ظلت تطارده كما جذبت صديقه الفنان سيد درويش إليها .
فالعواصم تجذب الأعلام دائما، وفي القاهرة يواصل بيرم التونسى حملته علي الاستعمار ورجال الحكومة وكأنما خشي بيرم أن يصادروا مجلته فأصدر العدد الثاني منها وهو يحمل العنوان الطريف التالي : (المسلة لا هي جريدة ولا مجلة) !!
وكانت مجلة المسلة تتابع الأحداث في وعي ويقظة وحس وطني رهيف، ولم يقف بيرم عند نقد المتناقضات في مجتمع هذا العهد بل واصل حملته علي الاحتلال وراح يندد بالحكومة ويسخر من رجالها بل هاجم الأسرة المالكة وعرض لبزخ القصور، وبؤس الفقراء .
فألهب وأوجع، وسرت أشعاره وأزجاله فيهم بين الجماهير كما تسري النار في الهشيم .
ولما كان جد بيرم لأبيه تونسي الأصل فقد احتفظت أسرته بالحماية الفرنسية وكانت مصر تحت وطأة الامتيازات الأجنبية فمنعت هذه الحماية بيرم وحمته من بطش الحكومة .
ولكن ذلك لم يمنعها عن مجلته فعطلوا (المسلة) وصادروا أعدادها من أيدي الجماهير فأصدر مجلة (الخازوق) ولكن لم يكن حظها بأحسن من المسلة.
وأخيرا استطاعت الحكومة أن تستصدر من القنصلية الفرنسية أمرا بإبعاد بيرم عن مصر .
وفي ليلة عيد الأضحي هاجمت مسكنه قوة بوليسية يصحبها مندوب من القنصلية الفرنسية فانتزعوه من بين أهله وولده ورحلوه إلي تونس موطن أجداده .
ولكن يشتد حنينه إلي مصر وإلي الأصل والوالد، ويدفعه هذا الحنين إلي التسلل إلي مصر ويحاول أن يعيش مختفيا ولكن مثل بيرم لا يمكن أن يخفي أمره فيقبض عليه مرة أخرى وينفي من جديد .
ولكنهم في هذه المرة يرحلونه إلي فرنسا ليعيش حياة ضنكا ويواجه أياما قاسية ويصاحب الجوع والتشرد ويضطر إلي العمل بأشق الأعمال فيعمل حمالا وعاملا في مصنع للصلب ثم خادما في أحد المتاجر .
ومن الغريب أن بيرم رغم النفي والتشرد وكل ما يقاسيه كان يعيش في مصر بقلبه ووجدانه ويواقع أحداثها وينفعل بها ويترجم عنها .
صحيح أنهم أغلقوا مجلاته وصادروا أعماله وأبعدوه ونفوه ولكنهم لم يسكتوه ولن يصدم الطائر غصنا يصدح من فوقه .
فجعل يترجم كل ذلك في روائعه ويرسلها من فرنسا إلي مجلات الشباب والنيل والفنون والإمام.
لقد أبعدوه عن مصر ولكنه لم يبعد عنها ولم يستطيعوا أن يمنعوا صوته أن يعبر البحر ويخترق الحدود ويجد سبيله إلي قلوب الجماهير .
وبعد مضي ما يقارب عشرين عاما قضاها الشاعر مشردا بين البلاد الأوربية والعربية تتقاذفه الشواطئ وتلفظه العواصم بعد هذه المدة .
وفي بعض هذه الرحلات تمر باخرة بمدينة بور سعيد تحمل الشاعر وكانت الوجهة مرسيليا فيطير صواب الفنان الذي عز عليه أن ترسو به السفينة علي شواطئ بلاده ولا يستطيع النزول اليها .
وبسرعة فكر في حيلة هرب بها من السفينة، والله وحده يعلم كم كانت ستمتد غربته لولا هذه الحيلة وهكذا عاد إلي مصر فقيرا متخفيا كما يقول:
نزلت في مصر مستخفي فقير وأديب دخلت لوكاندة مفتوحة لكل غريب وتمر الأيام بطيئة وهو بين خوف ورجاء إلي أن نشبت ثورة 1952 فمنحته الجنسية المصرية في عام 1954 .
وتمر الأيام علي بيرم وهو مازال يكافح وتزحف أمراض الشيخوخة في أوصاله ويشتد عليه مرض الربو الذي أصيب به نتيجة لكثرة السهر وإسرافه في التدخين .
وقد حاول علاج الربو بكافة المحاولات الطبية وغير الطبية دون جدوى.
ويحس بيرم في أواخر أيامه أن من واجبه أن يريح نفسه وأن يلتفت لرعاية ولديه الصغيرين فيقرر الإكتفاء بالعمل في الإذاعة فقط.
إلي أن جاء يوم وفاته فدخلت إل غرفته في الصباح زوجته كعادتها فوجدته في حالة يرثي لها، كان صوت السعال لا ينقطع من فمه والكلام لا يخرج من تحت لسانه إلا ثقيلا وجهه أصفر باهت لا حياة فيه!
وتدخل في نفس الوقت إحدى الجارات في حارة السد البراني لتقول للزوجة البركة فيك دي حالة موت!
ويصل جميع الأهل ليموت بيرم علي أيديهم في الساعة الواحدة ظهرا يوم 5 يناير 1961 وبعد أن طلب كوبا من الماء كأنما أراد به أن يودع ماء النيل الذي طالما اشتاق إليه في غربته .

شكراً مقدماً على التعليق والمشاركة

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العرب سايت

2016